خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصانع المتقن ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصانع المتقن ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 12 شوال 1443هـ، الموافق 13 مايو 2022م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م بصيغة word بعنوان : الصانع المتقن ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م بصيغة pdf بعنوان : الصانع المتقن ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م بعنوان : الصانع المتقن .
أولًا:إتقانُ العملِ مطلبٌ شرعيٌّ .
ثانيــــًا :الصناعةُ وإتقانُهَا مِن هدى الأنبياءِ والمرسلين .
ثالثًا وأخيرًا:كيف أتقنُ عملِي وصنعتِي ؟
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م بعنوان : الصانع المتقن : كما يلي:
خطبةُ الجمعةِ القادمةِ: الصانعُ المُتقِنُ د. محمد حرز بتاريخ: 11 شوال 1443هــ – 13 مايو 2022م
الحَمْدُ للهِ الذِي مَنَّ عَلَينَا بِوَطَنٍ مِنْ خِيرَةِ الأَوطَانِ، وَنشَرَ عَلَينا فِيهِ مَظَلَّةَ الأَمَانِ و الاستِقْرَارِ ، الحَمْدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ يوسف: 90.وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وليُّ الصالحين، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفُيهُ مِن خلقهِ وخليلُهُ ,القائلُ كما في حديثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم:((إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ) رواه البيهقيُّ، فاللهمَّ صلِّ وسلمْ على مسكِ الختامِ، وخيرِ مَن صلَّى وصام، ووقفَ بالمشعرِ وطافَ بالبيتِ الحرامِ، ، وعلى آلِهِ وصحبهِ الأعلام، مصابيحِ الظلامِ، خيرِ هذه الأمةِ على الدوامِ، وعلى التابعينَ لهم بإحسانٍ والتزامٍ.
أمَّا بعدُ: فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوىَ العزيزِ الغفارِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران :102).
أيُّها السادةُ:(( الصانعُ المُتقِنُ )) عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا
أولًا:إتقانُ العملِ مطلبٌ شرعيٌّ .
ثانيــــًا :الصناعةُ وإتقانُهَا مِن هدى الأنبياءِ والمرسلين .
ثالثًا وأخيرًا:كيف أتقنُ عملِي وصنعتِي ؟
أيُّها السادةُ : بدايةً ما أحوجَنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلى أنْ يكونَ حديثُنَا عن الصانعِ المتقنِ وخاصةً بعدمَا تحدثنَا في الجمعةِ الماضيةِ عن التاجرِ الأمينِ فنحن في حاجةٍ إلى الصانعِ المتقنِ كلُّ هذا مِن أجلِ المحافظةِ على وطنِنَا مصرَ الغاليةِ مِن أجلِ رفعتِهَا ونهضتِهَا وتقدمِهَا في جميعِ المجالاتِ التجاريةِ والصناعيةِ والزراعيةِ ، وخاصةً ولا يخفَى على أحدٍ ما يمرُّ بهِ العالمُ اليومَ مِن ارتفاعٍ للأسعارِ أرهقَ الناسَ حتى في نومِهِم ليكونَ هذا دافعًا للمحافظةِ على مصرِنَا وعلى عدمِ العبثِ بأمنِهَا واستقرارِهَا في زمنِ الأزماتِ الماليةِ والاقتصاديةِ الرهيبةِ التي يمرُّ بها العالمُ لنثبتَ للدنيا كلِّهَا أنَّ مصرَنَا الغاليةَ بفضلِ اللهِ أولًا ثم بفضلِ قيادتِهِا الحكيمةِ ورجالِهَا المخلصين قادرةٌ على تحدِّي الصعابِ والوصولِ بها إلى برِّ الأمانِ، وخاصةً و الصناعةُ سببٌ مِن أسبابِ تقدمِ الأممِ والشعوبِ، أمرَنَا بهَا دينُنَا الحنيفُ واعتبرَهَا مِن الأماناتِ التي أوصَي الإسلامُ بإتقانِهَا .
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصانع المتقن
أولًا:إتقانُ العملِ مطلبٌ شرعيٌّ .
أيُّها السادةُ : اللهُ جلَّ وعلا خلقَ كلَّ شيءٍ فأتقنَهُ قالَ جلَّ وعلَا﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ النمل: 88 فاللهُ جلَّ وعلا صَنَعَ كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ بِإِتقَانٍ فلو نظرتَ إلى السماءِ وارتفاعِهَا إتقانٌ، بل انظرْ إلى الأرضِ واتساعِهَا إتقانٌ، انظرْ إلى النجومِ ومدارِهَا إتقانٌ، انظرْ إلى البحارِ وأمواجِهَا إتقانٌ، انظرْ إلى الجبالِ وارتفاعِهَا إتقانٌ ما بعدَهُ إتقانٌ!!اللهُ أكبرُ بل لو نظرتَ إلى نفسِكَ التي بينَ جانبيكَ سترى عجبًا عجابًا خلقَكَ فأحسنَ خلقِكَ وصورَكَ فأحسنَ تصويرَكَ فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين قالَ -جلَّ وعلا )هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 6 قالَ -جلَّ وعلا ))فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ((المؤمنون: 14(والمصورُ هو مَن أحسنَ وأبدعَ وأخرجَ الشكلَ النهائيَّ في كاملِ هيئتهِ وبهائهِ، وأتقنَ كلَّ شيئٍ قالَ جلِّ وعلا ((اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ((غافر: 64(.
للهِ في الآفاقِ آياتٌ لعلَّ *** أقلّهَا هو ما إليهِ هداكَا
ولعلَّ ما في النفسِ مِن آياتهِ *** عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكَا
والكونُ مشحونٌ بأسرارٍ إذا *** حاولتَ تفسيراً لهَا أعياكِا
فالإتقانُ في كلِّ شيءٍ صفةٌ مِن صفاتِ الرحمنِ جلَّ جلالهُ، لذا كان النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلم- يتوسلُ إلى ربِّهِ ويدعوهُ ويُثنِي عليهِ بأنَّهُ هو الذي صوَّرَ وجهَهُ وجمَّلَ خلقَهُ، وأتقنَ خلقتَهُ على أجملِ صورةٍ وخيرِ بهاءٍ فعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .. إلى أن قال: وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))رواه مسلمٌ، فالإتقانُ مطلبٌ شرعيٌّ ، وواجبٌ وطنيٌّ، وعملٌ إنسانيٌّ وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ، ومقصدٌ مِن مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ، الكلُّ مطالبٌ بهِ، والكلُّ محاسبٌ عنهُ بينَ يديِ اللهِ لمَنْ فرطَ وأهملَ واستباحَ قال ربُّنَا جلَّ وعلا:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(الأنفال: 27)،ومِن أعظمِ الأماناتِ: الإتقانُ في العملِ، والإتقانُ صفةٌ نبيلةٌ، وغايةٌ ساميةٌ، وخلقٌ عظيمٌ مِن أخلاقِ الدينِ، ومبدأٌ كريمٌ من مبادئِ الإسلامِ ،وشيمةُ الأبرارِ المحسنينَ مِن الناسِ، وصفةٌ مِن صفاتِ المؤمنين، أمرَنَا بها الدينُ، وتخلقَ بها سيدُ المرسلين صلَّى اللهُ عليه وسلم .
وأولُ ما يجبُ على العبدِ أنْ يسعَى في إتقانِهِ هو توحيدُهُ للهِ -جلَّ وعلا-، فلا تعكرْ توحيدَكَ بشيءٍ مِن الشركِ، ولا تصرفْ وجهَكَ لغيرِ اللهِ، وجرّدْ توحيدَكَ لهُ سبحانَهُ، فمَن خرقَ توحيدَهُ في عملٍ فلن يُقبلَ منهُ، كما في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعالى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) فمَن أتقنَ توحيدَهُ للهِ دخلَ الجنةَ وإنْ زنى وإنْ سرقِ كما في الصحيحين كما في حديث أبي ذرٍ رضى اللهُ عنه قال أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه ثَوْبٌ أبْيَضُ، وهو نَائِمٌ، ثُمَّ أتَيْتُهُ وقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقالَ: ما مِن عَبْدٍ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ علَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ)) وهذا هو أسوتُنِا وقدوتُنَا أتقنَ كلَّ شيءٍ عبادتَهُ وعملَهُ و تجارتَهُ كما في حديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ قال قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا))رواه البخاري، وتاجرَ صلَّى اللهُ عليه في مالِ خديجةَ فكان خيرَ التاجرِ الأمينِ وخيرَ الصادقِ وخيرَ مَن أتقنَ في عملهِ.
ومِن أعظمِ العباداتِ التي تحتاجُ إلى إتقانٍ الصلاةُ فمَن حافظَ عليها نجَا في الدنيا والآخرةِ لحديثِ النبـيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم عن أبـي هريرةَ رضي اللَّهُ عنه قال : سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم يقولُ : ( إنَّ أوَّلَ ما يُحاسَبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ مِن عملِهِ صلاتُهُ فإنْ صلُحتْ فقد أفلحَ وأنجحَ وإنْ فسدتْ فقد خابَ وخسِرَ) رواه ابنُ ماجة.
فالإتقانُ يكونُ في أعمالِ الدينِ والدنيَا فإياكَ أنْ تكونَ متقنًا في أمورِ الدينِ ولستَ متقنًا في أمورِ الدنيَا لحديثِ ( إنك أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) رواه البخاري ولحديثِ ((كفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يُضَيِّعَ مَن يقوتُ ))وإياكَ ثمَّ إياكَ أنْ تكونَ متقنًا لأمورِ الدنيَا ولستَ متقنًا لأمورِ الآخرةِ فتكونَ مِن الهالكينَ والخاسرينَ، قالَ ربُّنَا ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) الروم( 7) يقولُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرهِ : فإنَّ أكثرَ الناسِ ليس لهم علمٌ إلّا بالدنيا وشؤونِهَا، فهم فيها حذاقٌ، أذكياءٌ في تحصيلِهَا ووجوهِ مكاسبِهَا، وهم غافلونَ عن أمورِ الدينِ وما ينفعُهُم في الدارِ الآخرةِ، كأنَّ أحدَهُم مغفلٌ لا ذهنَ لهُ ولا فكرةَ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ مِن أحدِهم بدنياهُ أنْ يَقْلِبَ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ . …فاللهَ اللهَ في الإتقانِ اللهَ اللهَ في إتقانِ العملِ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصانع المتقن
ثانيــــًا :الصناعةُ وإتقانُهَا مِن هدى الأنبياءِ والمرسلين .
أيُّها السادةُ : دينُنَا الحنيفُ حثَّنَا على الصناعةِ وإتقانِهَا وكيف لا ؟ وقد تميزَ الإسلامُ – عقیدةً وشريعةً وأخلاقًا وتصورًا للكونِ والإنسانِ بالجودةِ والإتقانِ فقالَ تعالى: (الْیَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِیتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة/3 ، والإتقانُ في نظرِ الإسلامِ هو أنْ تبذلَ الجهدَ و تتبعَ أحسنَ الطرقِ وتأخذَ بأفضلِ الوسائلِ لإنجازِ الأعمالِ المكلفِ بها ترجُو بذلك ثوابَ اللهِ ورضوانِهِ ومغفرتِهِ فمَا مِن عملٍ يقومُ بهِ المسلمُ إلَّا ويجبُ عليهِ أنْ يتقنَ ذلك العملَ سواء كان ذلك في العباداتِ والطاعاتِ كالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِّ وسائرِ العباداتِ والمعاملاتِ والصناعاتِ وكيفَ لا ؟ والإتقانُ ليسَ هدفًا سلوكيًّا فحسب، بل هو ظاهرةٌ حضاريةٌ تؤدِّي إلى الرقيِّ والتطورِ، وعليهِ تقومُ الحضاراتُ، ويعمرُ الكونُ، وتثرَى الحياةُ، … فالموظفُ والتاجرُ والمعلمُ والطبيبُ والعاملُ والمديرُ والقاضِي ورجلُ الأمنِ والمسؤولُ والسائقُ والنجارِ وعاملُ النظافةِ والمهندسُ يجبُ أنْ يتقنّوا أعمالَهُم .. فلا غشَّ ولا خداعَ ولا إهمالَ ولا تقصيرَ؛ لأنَّ العملَ في الإسلامِ عبادةٌ …العملُ عبادةٌ في غيرِ أوقاتِ العبادةِ … العملُ طاعةٌ، العملُ شرفٌ، العملُ عزةٌ وكرامةٌ. وكيفَ لا ؟ والصناعةُ قالَ عنها ربُّنِا جلَّ وعلا في كتابهِ العزيزِ ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25].ومِن شَرَفِ الصناعةِ أنَّ اللهَ – عزَّ وجلَّ – علَّمَهَا أنبياءَهُ ورُسلَهُ، فآدمُ أبو البشَرِ – عليه السلامُ – كان فلاَّحًا يحرُثُ الأرضَ ويزْرَعُ بنفسِه، وتساعدُهُ زوجتُهُ حواءُ في جميعِ الأعمالِ التي تتطلَّبُهَا مهنةُ الزراعةِ، ويصنعُ كذلك المعدَّاتِ التي تُعينُهُ على ذلك، وكان نبيُّ اللهِ إدريسُ – عليه السلامُ – خيَّاطًا، وكان نوحٌ – عليه السلامُ – نجَّارًا، يصنعُ الفُلْكَ الذي يتَّخذُهُ طريقًا للنجاةِ مِن الطوفان، فقالَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ﴾ [هود 37 – 38].
وكان خليلُ اللهِ إبراهيمُ – عليه السلامُ – بنَّاءً، وهو الذي بنَى الكعبةَ – البيتَ الحرام – وعاونَهُ في عمليةِ البناءِ ولدُهُ إسماعيلُ – عليه السلامُ – فقالَ اللهُ – تعالى -: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127
وكان إلياسُ – عليه السلامُ – نسَّاجًا، وكان داودُ – عليه السلامُ – حدادًا يصنَعُ الدروعَ، قال اللهُ – تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10 – 11. وعملَ زكريَّا -عليه السلامُ- في النجارةِ والخشبِ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم-: “كان زكريَّا -عليه السلامُ- نجارًا“. رواه مسلم.
وكيف لا؟ والإتقانُ والجودةُ في كلِّ شيءٍ خُلُقٌ إسلاميٌّ رفيعٌ اتصفَ بهِ الخالقُ جلَّ جلالُهُ في إحكامِهِ وإتقانِهِ لكلِّ شيءٍ، ودعَا إليهِ النبيُّ الأمينُ صلَّى اللهُ عليه وسلم في أحاديثِهِ الشريفةِ، وطبقَهُ واقعًا ملموسًا في حياتهِ، في عباداتهِ، ومعاملاتهِ، وكلِّ أعمالِهِ، وأقوالهِ، وحركاتهِ، وسكناتهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم يتجلَّى فيها خُلقُ الإتقانِ، ومِن مواقفِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم في تعليمِهِ لأمتهِ أهميةَ الإتقانِ في العملِ، فعَنْ أبي هريرة – رضي الله عنه – قال مر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي))
وكيف لا ؟وَلَقَدْ حَكَى لَنَا اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ أَنَّ الالتِزَامَ بِالعملِ مِنْ سِيَرِ عِبَادِهِ المُرسَلِينَ، فَهَذَا رَسُولُ اللهِ مُوسَى -عليهِ السَّلاَمُ- يَتَعَاقَدُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَى عَمَلٍ مُحَدَّدٍ بِزَمَنٍ مُحَدَّدٍ، خَلَّدَ اللهُ لِلْعَامِلِ فِيهِ ثَنَاءً عَطِرًا لالتِزَامِهِ بِهِ، قَالَ تَعالَى: ((قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً))(13)، إِنَّ مُوسَى -علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلاَمُ- لَمْ يُقَصِّرْ في مُهَمَّتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَظِيفَتَهُ، ولَمْ يُغَادِرْ مَوقِعَ عَمَلِهِ حَتَّى قَضَى الأَجَلَ زَمَاناً وَمَكَاناً مَعَ صَاحِبِ العَمَلِ، وَلَمَّا انقَضَى الأَجَلُ غَادَرَ مَحمُودَ السِّيرَةِ، صَافِيَ السَّرِيرَةِ، أَفَلاَ تَكُونُ لَنَا قُدوَةٌ حَسَنَةٌ فِيهِ وَفي سَائِرِ المُرسَلِينَ، التِزامًا بِالعُقُودِ، وَوَفَاءً بِالعُهُودِ؟ قَالَ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ))(14).
وكيف لا؟ والمتقنُ لعملِهِ يحبُّهُ اللهُ، قال جلَّ وعلا ((وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195، وعَنْ أُم المُؤمِنينَ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَه((.
وكيف لا؟ وإتقانُ العملِ شهادةٌ في سبيلِ اللهِ للحديثِ الذي رواهُ الطبرانيُّ في معجمهِ عن كعبِ بنِ عجرةَ قال مرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فرأَى أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من جلَدِهِ ونشاطِهِ فقالُوا: يا رسولَ اللهِ لو كانَ هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنْ كانَ خرجَ يسعَى على ولدِهِ صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرجَ يسعَى على أبوينِ شيخينِ كبيرينِ فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كانَ خرجَ يسعَى على نفسِه يعفُّهَا فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كانَ خرجَ يسعَى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ). وهذا مِن تعظيمِ اللهِ أَمْرَ العملِ والصناعةِ باليدِ.
أحزانُ قلبِي لا تزول** حتى أبشرَ بالقبولِ
و أرى كتابِي باليمين ** وتقرُّعينِي بالرسولِ
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم
الخطبةُ الثانيةُ الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلَّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يُستعانُ إلَّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصانع المتقن
ثالثًا وأخيرًا:كيف أتقنُ عملِي وصنعتِي ؟
أيُّها السادةُ : إتقانُ العملِ واجبٌ شرعيٌّ ومطلبٌ وطنيٌّ لرفعةِ مصرِنَا الغاليةِ، الكلُّ مطالبٌ بهِ ومحاسبٌ عليهِ بينَ يدي الله جلَّ وعلا، أُتقنُ عمَلِي أولًا بالإخلاصِ، فالإخلاصُ في كلِّ شيءٍ سببٌ لنجاحهِ، الموظفُ يخلصُ في وظيفتهِ، العاملُ يخلصُ في وظيفتهِ، المهندسُ يخلصُ في وظيفتهِ، التاجرُ يخلصُ في وظيفتهِ. أُتقنُ عملِي بمراقبةِ اللهِ في عملِي وصنعتِي واجعلُ اللهَ مطلعًا عليَّ ويرانِي، وإياكَ أنْ تكونَ مِمَن يراقبونَ العبادَ, وينسونَ ربَّ العبادِ، يخشونَ الناسَ وينسونَ ربَّ الناسِ، قال ربُّنَا ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ)
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فــلا *** تقلْ خلوتُ ولكنْ قُل علىَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ اللهَ يغفلُ ســـاعةً *** ولا أنَّ ما يخفَى عليـــهِ يغيبُ
أُتقنُ عملِي بالجمعِ بينَ الدنيا والدينِ، اعملْ لدنياكَ كأنَّكَ تعيشُ غدًا واعملْ لأخرتِكَ كأنَّكَ تموتُ غدًا، فالإسلامُ دينٌ وعملٌ يقولُ علىٌّ بنُ أبي طالبٍ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَّقَهَا ، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا ، وَمَطْلَبُ نُجْحٍ لِمَنْ سَالَمَ ، فِيهَا مَسَاجِدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ ، وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ ، فِيهَا اكْتَسَبُوا الرَّحْمَةَ ، وَرَبِحُوا فِيهَا الجنة)
لذا كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم كما في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) رواه مسلم
أُتقنُ عملِي رفعةً لوطنِي وحرصًا على نهضتِهِ، فكَم مِن أممٍ تقدمتْ بسببِ إتقانِهَا للعملِ؟ وكم مِن أممٍ تأخرتْ بسببِ عدمِ إتقانِهَا للعملِ؟ فالصانعُ المتقنُ ينطلقُ مِن دافعٍ دينيٍّ ومِن دافعٍ وطنيٍّ يقومُ بدورِهِ على أكملِ وجهٍ بإحسانِ العملِ وإتقانهِ بدقةٍ وحرصٍ ليساعدَ في رقيِّ وطنهِ وتقدمهِ …. فمصرُنَا في مرحلةٍ فاصلةٍ.. وهذا يقتضِي منَّا جميعًا العملَ والسعيَ والإتقانَ وأنْ نعملَ مجدينَ مخلصينَ لنهضةِ وطنِنَا مصرَ الغاليةِ .فالاقتصادُ القويُّ يعني دولةً قويةً شامخةً ذاتَ مكانةِ بينَ الدولِ…. وهذا ما تسيرُ عليه دولتُنَا الحرةُ الغاليةُ مصرُ في جمهوريتِنَا الجديدة .
مصرُ الكنانةُ ما هانتْ على أحدٍ *** اللهُ يحرسُهَا عطفًا ويرعاهَا
ندعوكَ ياربِّ أنْ تحمِى مرابعَهَا *** فالشمسُ عينٌ لهَا والليلُ نجواهَا
مَن شاهَدَ الأرْضَ وأَقْطَارَها *** والنَّاسَ أنـواعًا وأجناسًا
ولا رأى مِصْـرَ ولا أهلهَا *** فما رأىَ الدنيا ولا الناسَ
فالإتقانَ الإتقانَ تُفلحوا !!! الإتقانَ الإتقانَ تساعدُوا في نهضةِ بلدِكُم، فكم مِن أممٍ تقدمتْ بسببِ إتقانِهَا للصناعةِ، وكم مِن أممٍ تأخرتْ بسببِ عدمِ إتقانٍ في الصناعةِ .
حفظَ اللهُ مصرَ مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافٍ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/ محمد حرز
إمام بوزارة الأوقاف
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف